أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية لــ عزيز سباهي
إلى الشمال من القرنة، حيث يلتقي دجلة بأحد مصبي نهر الفرات يجري نهر صغير، والأصح مبزل صغير، يدعى «السطیح، یاخذ مياهه من الأهوار التي توازي دجلة إلى الغرب، ليصبها في نهر دجلة إلى الجنوب من ناحية العزير، وفي راس البرزخ الضيق الذي تحيط به الأهوار من كل جانب تقع قرية صغيرة تدعى السطيح أيضا، وكما هو شان فری میسان الصغيرة الأخرى، كانت الأكواخ
المبنية من القصب والبردي تحتشد في السطيح دون انتظام في بقعة صغيرة من الأرض.
وعند الركن الشمالي من القرية (أو السلف كما يدعونها في ميسان) كان ينفرد كوخ صغير على ضفة نهر دجلة، منعزلا عن اكواع الفلاحين الأخرى كان المارة الذين يسيرون بمحاذاة النهر صوپ ناحية العزير أو القادمين منها، يلقون نظرة على رجل ربع القامة في الحية كثة، وهو ينحني على هيكل من الخشب ليصنع منه قارب صغيرة لواحد من صيادي القرية. كان من عادة المارة أن يلقوا التحية على نمير، وكان هذا هو اسمه، فيرفع رأسه ليرد التحية مشفوعة بابتسامة، وربما أردفها بسؤال عن صحة المار او اولاده ثم ينصرف ليتابع عمله على هيكل القارب، وكان (السيباط) (أو الصوباط كما يدعونه هناك، وهو سقيفة من القصب) الذي اتخذه نمير مشغلاله ينفتح على كل الجهات، محاذيا لكوخه, كان ينصرف إلى عمله هناك طوال
النهار، حتى إذا جن الليل، انحدر إلى نهر دجلة وقرفص عند حافة النهر وراح يغسل جبهته وانف وأذنيه وفمه وماتحت إبطيه بالماء، وهي پرطن بلغة خاصة لا يفهمها السامعون، فإذا فرغ من ذلك، انتصب ويعم وجهه صوب الشمال و شرع يتلو بذات اللغة نصاحفظه عن ظهر قلب دون أن يفنه ما يعنيه هذا النص، لياوي بعد ذلك إلى كوخه، ، ، وفي اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس يكرر ما فعله عند المسام وصلاتها عند النهر، وكان المارة قد ألفوا منه وصلاته هذه، ولم يعودوا يشغلون بالهم بأمره
لقد ورث تمير صناعة قوارب الخشب الصغيرة المطلية بالقار عن ابيه وجده وهذان قد توارثاها ممن سبقهم منذ أجيال بعيدة. ومثلما عاش نعر وزوجته وأطفاله ربما يكون قد عاش هنا أجداده الأقدمون، وفي قرية مجاورة لا تبعد كثيرا كان يسكن أقارب له، اتخذوا من احد اركانها عند النهر مكانا لهم ليبنوا گوخهم ومشغلهم، وانصرفوا إلى صناعة المساحي، والفول، والمحاريث والمناجل وما إليها من الأدوات التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في القرية
وكان جبرته يدعونهم بالصبة، والواحد منهم بالصبي، وربما على مادة الفلاحين هناك يعمدون إلى تصغير اسمه فيدعونه بس الصبيييه، ، ، وكانوا يلاحظون أنه في مناسبات معينة عندهم يتجه إلى اللعبة المجاورة قلعة صالح، حيث يوجد كثرة من أصحابه هناك ليبتاع الخشب والحديد وما يحتاج من مؤن، وليؤدي أيضأ طقوسا دينية خاصة على أيدي کهئة في معبد خاص لهم يدعونه بالمندي»، مع أمثاله القادمين من القرى المجاورة
لم تكن مدن أو قصبات جنوب العراق لتخلو من الصابئة، هؤلاء، وان كانوا قلة ، وكان أمثال لهم يقطنون المنطقة المجاورة في إيران. كان بعضهم يحترف الحرف التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في ذات القرية من حدادة ونجارة وصباغة حلي، ثم اتجه آخرون صوب المدن الكبيرة للعمل كصاغة تارکین عوائلهم وراءهم في المدن والقرى السابقة ليعودوا إليها في مناسباتهم الدينية حيث يمضون معها أياما معدودات يقفلون بعدها راجعين إلى مقرات عملهم.
كانت تلك هي حياة الصابئة قبل عقود من السنين. وفي حياة، كررت نفسها، كما يبدو، لمئات السنين... لا أحد يذكر أنهم كانوا على غير هذه الحال، لكنهم منذ أن تزايد النشاط الاقتصادي والاجتماعي الحديث في
العراق شرعوا يتجهون بعوائلهم صوب المدن الكبيرة، لاسيما بغداد والبصرة، باعداد صغيرة أولا، ثم بمجموعات أكبر حتى خلت القصبات والقرى السابقة منهم واستقرت غالبيتهم في هاتين المدينتين
لم تكن هذه الانتقالة الجغرافية هي وحدها ما شاهدته المجموعة، بل شهد الصابئة في العقود الماضية حراكا من نوع آخر، إذ اتجه اغلب شبابهم نحو التحصيل العلمي الحديث، واجتذبتهم المهن الحديثة وانصرفوا عن ممارسة حرفهم البدائية السابقة وطوروا صنعة الصياغة التي احتفظوا بها إلى صناعة عصرية. ومع هذا التحول الاجتماعي قل اهتمامهم بممارسة
طقوسهم الدينية الخاصة، ولم يعودوا يتقيدون بكثير من المحرمات الدينية التي نشأوا عليها من قبل إلى الحد الذي أوجد أزمة حقيقية بالنسبة إلى بقائهم كمجموعة دينية ذات سمات ومعتقدات خاصة. وقد دفع هذا ببعضهم إلى التفكير بتكييف مفاهيمهم وطقوسهم الدينية لتساير الحياة العصرية الراهنة. وهكذا، فإن هذه المجموعة الصغيرة من الناس ما أن كسرت الطوق الذي ظل يعزلها عبر القرون، والذي صانها كطائفة خاصة الألفي عام، حتى وجدت نفسها توشك على الزوال
لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورا ملحوظا في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية - الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية - الإسلامية. لكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعده وتعرضهم إلى الإضطهاد في العهود المختلفة انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر کارون في جنوب غربي إيران، وكانت هذه المنطقة، لظروفها الجغرافية الخاصة بمنای - إلى حد ما- عن سطوة الحكام وبطشهم، ولكونهم جماعة مسالمة، لا شأن لها بزراعة الأرض ومشاكلها، ويحترف أفرادها حرقا ضرورية للفلاحين والصيادين، ولا يطمعون باكتر من إعطائهم الفرصة الممارسة طقوسهم الدينية الخاصة دون تدخل، ضمنوا البقاء والاستمرار
طوال القرون الماضية، ورغم غرابة هذه الطقوس ما كانوا ليثيروا الوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم، الذي هو شيعي المذهب في الأساس، وإن ظل
إلى الشمال من القرنة، حيث يلتقي دجلة بأحد مصبي نهر الفرات يجري نهر صغير، والأصح مبزل صغير، يدعى «السطیح، یاخذ مياهه من الأهوار التي توازي دجلة إلى الغرب، ليصبها في نهر دجلة إلى الجنوب من ناحية العزير، وفي راس البرزخ الضيق الذي تحيط به الأهوار من كل جانب تقع قرية صغيرة تدعى السطيح أيضا، وكما هو شان فری میسان الصغيرة الأخرى، كانت الأكواخ
المبنية من القصب والبردي تحتشد في السطيح دون انتظام في بقعة صغيرة من الأرض.
وعند الركن الشمالي من القرية (أو السلف كما يدعونها في ميسان) كان ينفرد كوخ صغير على ضفة نهر دجلة، منعزلا عن اكواع الفلاحين الأخرى كان المارة الذين يسيرون بمحاذاة النهر صوپ ناحية العزير أو القادمين منها، يلقون نظرة على رجل ربع القامة في الحية كثة، وهو ينحني على هيكل من الخشب ليصنع منه قارب صغيرة لواحد من صيادي القرية. كان من عادة المارة أن يلقوا التحية على نمير، وكان هذا هو اسمه، فيرفع رأسه ليرد التحية مشفوعة بابتسامة، وربما أردفها بسؤال عن صحة المار او اولاده ثم ينصرف ليتابع عمله على هيكل القارب، وكان (السيباط) (أو الصوباط كما يدعونه هناك، وهو سقيفة من القصب) الذي اتخذه نمير مشغلاله ينفتح على كل الجهات، محاذيا لكوخه, كان ينصرف إلى عمله هناك طوال
النهار، حتى إذا جن الليل، انحدر إلى نهر دجلة وقرفص عند حافة النهر وراح يغسل جبهته وانف وأذنيه وفمه وماتحت إبطيه بالماء، وهي پرطن بلغة خاصة لا يفهمها السامعون، فإذا فرغ من ذلك، انتصب ويعم وجهه صوب الشمال و شرع يتلو بذات اللغة نصاحفظه عن ظهر قلب دون أن يفنه ما يعنيه هذا النص، لياوي بعد ذلك إلى كوخه، ، ، وفي اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس يكرر ما فعله عند المسام وصلاتها عند النهر، وكان المارة قد ألفوا منه وصلاته هذه، ولم يعودوا يشغلون بالهم بأمره
لقد ورث تمير صناعة قوارب الخشب الصغيرة المطلية بالقار عن ابيه وجده وهذان قد توارثاها ممن سبقهم منذ أجيال بعيدة. ومثلما عاش نعر وزوجته وأطفاله ربما يكون قد عاش هنا أجداده الأقدمون، وفي قرية مجاورة لا تبعد كثيرا كان يسكن أقارب له، اتخذوا من احد اركانها عند النهر مكانا لهم ليبنوا گوخهم ومشغلهم، وانصرفوا إلى صناعة المساحي، والفول، والمحاريث والمناجل وما إليها من الأدوات التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في القرية
وكان جبرته يدعونهم بالصبة، والواحد منهم بالصبي، وربما على مادة الفلاحين هناك يعمدون إلى تصغير اسمه فيدعونه بس الصبيييه، ، ، وكانوا يلاحظون أنه في مناسبات معينة عندهم يتجه إلى اللعبة المجاورة قلعة صالح، حيث يوجد كثرة من أصحابه هناك ليبتاع الخشب والحديد وما يحتاج من مؤن، وليؤدي أيضأ طقوسا دينية خاصة على أيدي کهئة في معبد خاص لهم يدعونه بالمندي»، مع أمثاله القادمين من القرى المجاورة
لم تكن مدن أو قصبات جنوب العراق لتخلو من الصابئة، هؤلاء، وان كانوا قلة ، وكان أمثال لهم يقطنون المنطقة المجاورة في إيران. كان بعضهم يحترف الحرف التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في ذات القرية من حدادة ونجارة وصباغة حلي، ثم اتجه آخرون صوب المدن الكبيرة للعمل كصاغة تارکین عوائلهم وراءهم في المدن والقرى السابقة ليعودوا إليها في مناسباتهم الدينية حيث يمضون معها أياما معدودات يقفلون بعدها راجعين إلى مقرات عملهم.
كانت تلك هي حياة الصابئة قبل عقود من السنين. وفي حياة، كررت نفسها، كما يبدو، لمئات السنين... لا أحد يذكر أنهم كانوا على غير هذه الحال، لكنهم منذ أن تزايد النشاط الاقتصادي والاجتماعي الحديث في
العراق شرعوا يتجهون بعوائلهم صوب المدن الكبيرة، لاسيما بغداد والبصرة، باعداد صغيرة أولا، ثم بمجموعات أكبر حتى خلت القصبات والقرى السابقة منهم واستقرت غالبيتهم في هاتين المدينتين
لم تكن هذه الانتقالة الجغرافية هي وحدها ما شاهدته المجموعة، بل شهد الصابئة في العقود الماضية حراكا من نوع آخر، إذ اتجه اغلب شبابهم نحو التحصيل العلمي الحديث، واجتذبتهم المهن الحديثة وانصرفوا عن ممارسة حرفهم البدائية السابقة وطوروا صنعة الصياغة التي احتفظوا بها إلى صناعة عصرية. ومع هذا التحول الاجتماعي قل اهتمامهم بممارسة
طقوسهم الدينية الخاصة، ولم يعودوا يتقيدون بكثير من المحرمات الدينية التي نشأوا عليها من قبل إلى الحد الذي أوجد أزمة حقيقية بالنسبة إلى بقائهم كمجموعة دينية ذات سمات ومعتقدات خاصة. وقد دفع هذا ببعضهم إلى التفكير بتكييف مفاهيمهم وطقوسهم الدينية لتساير الحياة العصرية الراهنة. وهكذا، فإن هذه المجموعة الصغيرة من الناس ما أن كسرت الطوق الذي ظل يعزلها عبر القرون، والذي صانها كطائفة خاصة الألفي عام، حتى وجدت نفسها توشك على الزوال
لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورا ملحوظا في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية - الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية - الإسلامية. لكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعده وتعرضهم إلى الإضطهاد في العهود المختلفة انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر کارون في جنوب غربي إيران، وكانت هذه المنطقة، لظروفها الجغرافية الخاصة بمنای - إلى حد ما- عن سطوة الحكام وبطشهم، ولكونهم جماعة مسالمة، لا شأن لها بزراعة الأرض ومشاكلها، ويحترف أفرادها حرقا ضرورية للفلاحين والصيادين، ولا يطمعون باكتر من إعطائهم الفرصة الممارسة طقوسهم الدينية الخاصة دون تدخل، ضمنوا البقاء والاستمرار
طوال القرون الماضية، ورغم غرابة هذه الطقوس ما كانوا ليثيروا الوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم، الذي هو شيعي المذهب في الأساس، وإن ظل

إرسال تعليق