ثلاثية غرناطة لــ رضوى عاشور

ثلاثية غرناطة  لــ  رضوى عاشور


ذلك اليوم رأى أبو جعفر امرأة عارية تنحدر في اتجاهه من أعلى الشارع كأنها تقصده ، اقتربت المرأة أكثر فأيقن أنها لم تكن ماجنة ولا مخمورة, كانت صبية بالغة الحسن ميادة القده ثدياها كأحقاق العاج، وشعرها الأسود مرسل يغطى كتفيها، وعيناها الواسعتان يزيدهما الحزن اتساعا في وجه شدید الشحوب .
ولما كان الشارع مهجورا والحوانيت لم تزل مغلقة، وضوء النهار لم يبدد بنفسج السحر بعد فقد بدا لأبي جعفر أن ماشاهده رؤيا من رؤي الخيال. حدق وتحقق ثم غالب دهشته وقام إلى المرأة وخلع ملفه الصوفي وأحاط به جسدها وسألها عن اسمها ودارها فلم يبد أنها رأته أو سمعته. ترکها تواصل طريقها وظل يتابع مشبتها الوئيدة وحركة خلخالیها الذهبين حول کاحلين لوثتهما ، وحول طريق تخوض فيه قدماها الحافيتان .
ورغم البرد القارس وصفیر ریاح تعصف بأشجار الجوز المغروسة على جانبي الطريق، بقي أبو جعفر واقفا بباب حانوته حتى أرسلت الشمس خيوطا صفراء واهية حددت معالم الشارع.
في الحانوت تبادل مع نعیم کلمات معدودة ، ثم انتحي رکنا وجلس صامتا، لم يفت الصبي وجوم معلمه، فاستبدل بصخبه المعتاد حرکات وجلة محكومة، وراح يعمل بين رغبة في إتقان عمله إرضاء له، وقلق عليه يشتنه ويدفعه إلى اختلاس النظر إليه بين لحظة وأخرى.

- ما اسمك يا ولد؟
كان الرجل مديد الطول مهيب الهيئة لا يختلف مظهره عن أولئك الكبار الذين يفزعونه ، فما إن يستوقفه واحد منهم حتى يقفز مبتعدا كارنب بري تفور. رفع عبئيه منسلفا الجسد العالي حتى وصل إلى عينيه، كانتا زرقاوين وديعتين، لم يركض، تمتم . - نعيم.
وأين أهلك يا نعيم؟ - رحلوا أو ماتوا.. لا أدري .
مد أبو جعفر يده وأطبقت كفه الكبيرة على يد الصغير الذي تبعه بفتح ساقيه على الساعهما ليواكب خطوته .
أطعمه أبو جعفر و آواه وعلمه أسرار الحرفة، دريه على دباغة جلد الماعز وصباغته وإعداده، وعلمه ترتيب أوراق المخطوط ولصق الغلاف، سمح له بالقيام بكافة المهام باستثناء مهمئين كان يفضل أن يقوم بها بنفسه ويطلب منه متابعته لكي يتعلم : يلزم الخيط في المخرز وبدقة وبطء يمرر المخرز والخيط في کعب المخطوط مرة وثانية وثالثة ورابعة ذهابا وإيابا حني حكم خياطته. ثم يترك له لصق الكعب في الغلاف ووضع الكتاب في المكبس وبعد أيام عندما يخرج الكتاب من المكبس يقوم أبو جعفر بكتابة العنوان واسم المؤلف واسم المالك بماء الذهب أو بغيره حسب الطلب، ثم يزين الغلاف ويزخرفه
يتحرق أن يسمح له معلمه أن يقوم بذلك ويلح فيناوله ورقة وهو يبتسم. - هاك ورقة اكتب عليها الفاتحة
فيشعر أنه وقع في شر أعماله لأن خطه كان يتعرج صعودا وهبوطا کالسكة الجبلية .

- هل أنت مريض یا أبا جعفر؟





الم يجبه أبو جعفر ولم يلتفت إليه، بل ظل مطرق الرأس زائغ العينين ، شاردا . انقضى النهار وطيف الصبية ماثل أمام عينيه , كان مضطربا وحزنا وإن لم يتملكه التوجس إلا في اليوم التالي حين سمع بأمر اجتماع الحمراء ، وترددت الشائعات عن غرق موسی بن أبي الغسان في نهر شنيل، فهل تكون الصبية العارية إشارة صادقة كالرؤى والنبوءات؟
استنب تطيره وترسخ في قلبه بعد أيام معدودة عندما حكى له نعيم عن امرأة وجدوا جثتها عارية تطفو على صفحة النهر ، سأله :
- في حره أم شنيل؟ - في شنيل.. - إذن لا مفر!
تطلع إليه نعيم مستفهما ولكن أبا جعفر ظل صامتا ولم يفسر شيئا من کلمائه ، ابتلعت دوامات النهر الأمل الباقي، وانفرط عقد الأمة وتيتمت
العباد .
الثلاث ليال لم تنم غرناطة ولا البيازين. تحدث الناس بلا انقطاع ليس عن المعاهدة، بل عن اختفاء موسى بن أبي الغسان. استغرقهم الخبر الذي انتشر من نهر شئيل إلى عين الدمع، ومن باب تجد إلى مقابر سهل بن مالك، سری في الشوارع والحواري والجئات. حمله ماء شنيل من أطراف المدينة ثم دخلها مع نهر دره وانتقل إلى ضفته الغربية، ومنها إلى السميكة والحمراء وجئة العريف، وإلى ضفته الشرقية، ومنها إلى القصبة القديمة والبيازين، ثم تجاوز الأسوار والأبواب والأبراج وأطواق الكروم إلى جبل الثلج من ناحية وجبل الفخار من الناحية الأخرى.
قال البعض أن ابن أبي الغسان خرج من اجتماع الحمراء، وقد قرر أن يقاتل

ثلاثية غرناطة  لــ  رضوى عاشور




إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget