الأمل والذاكرة  لــ  تزفيتان تودوروف
لا يزال يوم الأول من كانون الثاني من عام ۱۹۵۰ حية في ذاكرتي، حيث إن هذا التاريخ، بحد ذاته، يمثل رقما مميزا لانتهائه بالصفر: كنت آنذاك في الحادية عشرة من عمري، وكنت جالسا عند شجرة عيد الميلاد، التي كنا نطلق عليها أيضا اسم شجرة عيد رأس السنة، حينها تساءلت وبشيء من القلق إذا كنت سابلغ اليوم نفسه من العام ۲۰۰۰، تراءى لي ذلك التاريخ بعيد المنال، إنه
نصف قرنا كنت متيقنة أن هذا التاريخ لن يأتي إلا وأنا في عداد الأموات. وها أنا قد أدركت هذا اليوم، مزت الأيام كلمح البصر، وأراني أسأل نفسي، شأن كل من شهد هذا القرن: ما هو الانطباع الذي خلفه في ذهننا القرن المنصرم؟ لقد تعمدت استخدام لفظة (قرن)، مع أننا أصبحنا في الألفية الثالثة، فأحداث الألفية الثالثة تبقى مجهولة بالنسبة لنا، ولكننا نستطيع أن تلم بأحداث القرن السابق.
بدعونا الملحق الأدبي للصحيفة الأدبية اللندنية التايمز في كل عام لاختبار كتاب العام)، وقد دعانا سابقا مع اقتراب عام ۱۹۹۹ من نهايته لترشيح (كتاب الألفية الماضية). بدا لى الموضوع في حينها تافها لدرجة اني لم أنه بإرسال أي جواب، لكن بالمقابل، عندما تثير موضوع (قرن ما)، فإن للكلمة أثرها في الأذهان، إنها تشمل حياتنا وحياة آبائنا، وعلى أكثر تقدير حياة أجدادنا . فكلمة فرن تنبض في ذاكرة الأفراد.
لست أدعى أنثى (اختصاصی) بأحداث القرن العشرين أو ملم بها، كما هو حال المؤرخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة، ولا أطمح لأن أكون كذلك. فالكل على اطلاع بخطوطه العريضة، التي تطالعها على صفحات الكتب. ما يشغلني هنا هو التفسير الحقيقي للوقائع، التي تأتي غامضة في كثير من الأحيان. لا أريد أن ألفي دور المؤرخين، الذين يقومون بالمهمة على أكمل وجه، ما يهمني هو الوقوف عند هذا
التاريخ الذي يدونونه وتأمله، فأنا أنظر إلى هذا القرن كشاهد عيان يعنيه الأمر، وككاتب يحاول فهم الزمان الذي عاش فيه، لا (كاختصاصي).
ويتدخل قدري الخاص ليلعب دورا محدودة من حيث الزاوية التي اخترتها الدراسة أحداث هذا القرن، وذلك من خلال منطلقين: الأول ظروف حياتي الشخصية، والثاني مهنتي التي أمارس. باختصار، لقد ولدت في بلغاريا وترعرعت في هذا البلد حتى عام ۱۹۹۳، الذي كان آنذاك يرزح تحت سيطرة النظام الشيوعي ومنذ ذلك الحين انتقلت للعيش في فرنسا. ومن ناحية أخرى، فإن عملي يقتضي دراسة تطورات الثقافة، والأخلاق، والسياسة، وتحديد تاريخ الأفكار
 
 
 
 
وخلصت إلى أن هوية الفرد تلعب دورا هاما في اختيار الحدث الأهم في قرن ما، ذلك الحدث الذي يبلور مجرى هذا القرن. فبالنسبة للفرد الإفريقي مثلا، پشگل الاستعمار وتحرر البلاد الحدثين السياسيين الفاصلين. حتى بالنسبة للفرد الأوربي سأتناول هذا القرن العشرين في أوربا بشكل خاص، وسأكتفي بالتلميح إلى أحداث خاطفة في باقي القارات، فإن الباب مفتوح على مصراعيه، هنالك من يقول إن الحدث الأهم يتمثل في تحرير المرأة): حيث إنها دخلت معترك الحياة العامة وتمكنت من السيطرة على عملية الإنجاب (بتناولها حبوب منع الحمل)، وفي الوقت نفسه، انتشار القيم التقليدية التي تتناول أمور المرأة)، بما فيها عالمها الخاص وأثرها على حياة الجنسين، قد يولي بعضهم الآخر أهمية لمواضيع أخرى، کالانخفاض في نسبة الوفيات القاسية لدى الأطفال، أو ارتفاع في متوسط العمر في البلدان الغربية، أو التباين في جداول الإحصاء السكاني ، ويذهب آخرون إلى ترجيح كفة التطور التقني الذي كان له الأثر في تحديد منحي هذا القرن، کهيمنة الطاقة الذرية، وفك رموز علم الوراثة، وتبادل المعلومات بشكل إلكتروني، وأخيرا التلفاز،
إنني أؤيد جميع هذه الآراء، فتجربتي الخاصة لا تضيف أي تفسير لهذه المواضيع؛ بل إنها تدفعني لوجهة أخرى، مختلفة تماما. إن الحدث الرئيس بالنسبة لی، هو ظهور آفة جديدة، نظام سیاسی مبتكر، ألا وهو نظام الشمولية (الحكم
المطلق) الذي من خلاله يتلاشى الفرد، ليذوب في بوئفة المجتمع والدولة. وقد سيطر هذا النظام في أوجه، على جزء كبير من العالم ونراه اليوم قد اندثر من أوربا، ولكنه لا يزال موجودة في بعض القارات؛ حيث تبقى آثاره عالقة إلى يومنا هذا، وأريد هنا أن أتناول العبر التي استنتجناها من المواجهة العدائية التي نشأت آنذاك، بين نظام الشمولية والنظام الديمقراطي.
لا يمكن أن نعي أن القرن العشرين خنع تحت وطأة هاتين القوتين العظمتين، فذلك يستدعي توزيعة لقيم قد لا تروق للجميع. يكمن أصل المشكلة في أن أوروبا مرث بنظامين شموليين، ألا وهما النظام الشيوعي والنظام الفاشي: بدا الأمر بصراعهما الفكري العنيف، ثم ما لبث أن انتقل إلى ساحات القتال. و في كل مرة كان أحدهما بلقي تأييدأ من الدول ذات النظام الديمقراطي، حيث كان يتحالف تیاران منهم ضد التيار الثالث؛ ففي بادئ الأمر، اتفق الشيوعيون كافة على تنحية أعدائهم (وكانوا من الرأسماليين)، وظهرت كل من الديمقراطية الحرة والفاشية على انهما شكلين متطورين ومتطرفين للمرض نفسه، وعلى الرغم من ذلك، وفي منتصف الثلاثينات، وبشكل أدق خلال الحرب العالمية الثانية، تغير الوضع، فتحالف كل من النظامين الديمقراطي والشيوعي ضد الفاشية. وأخيرا وفي السنوات القليلة التي سبقت اندلاع الحرب، وتلك التي تلتها، تم الاتفاق على اعتبار كل من الفاشية والشيوعية نظامين تابعين للنظام الشمولي، ويعود أصل المطالبة بتلك التسمية للفاشية الإيطالية، وأراني سأتطرق فيما بعد للتعريفات و التسميات, وكما يتضح من خلال هذا السرد للوقائع، أن هذا التصنيف بنظري هو الأوضح
إن اختياري للحدث المميز هو الذي يحدد بشكل ملموس، الموضوع الذي أتناول فمن حيث المكان، سأكتفي بعرض ما جرى في القارة الأوربية، التي أتبث منها، وسأتناول أبرز الأحداث التي جرت فيها، مما أثر على الحقبة الزمنية المحورية، وساتطرق للأحداث التي جرت بين عامي ۱۹۱۷ و۱۹۹۱ بشكل رئيسي، وفي بعض الأحيان أجدني مضطرة للرجوع إلى فترة تسبق هذا التاريخ، أو للوقوف عند العقد الأخير من هذا القرن، والأهم من هذا كله، سأكتفي بمظهر واحد من الحياة العامة
لا يزال يوم الأول من كانون الثاني من عام ۱۹۵۰ حية في ذاكرتي، حيث إن هذا التاريخ، بحد ذاته، يمثل رقما مميزا لانتهائه بالصفر: كنت آنذاك في الحادية عشرة من عمري، وكنت جالسا عند شجرة عيد الميلاد، التي كنا نطلق عليها أيضا اسم شجرة عيد رأس السنة، حينها تساءلت وبشيء من القلق إذا كنت سابلغ اليوم نفسه من العام ۲۰۰۰، تراءى لي ذلك التاريخ بعيد المنال، إنه
نصف قرنا كنت متيقنة أن هذا التاريخ لن يأتي إلا وأنا في عداد الأموات. وها أنا قد أدركت هذا اليوم، مزت الأيام كلمح البصر، وأراني أسأل نفسي، شأن كل من شهد هذا القرن: ما هو الانطباع الذي خلفه في ذهننا القرن المنصرم؟ لقد تعمدت استخدام لفظة (قرن)، مع أننا أصبحنا في الألفية الثالثة، فأحداث الألفية الثالثة تبقى مجهولة بالنسبة لنا، ولكننا نستطيع أن تلم بأحداث القرن السابق.
بدعونا الملحق الأدبي للصحيفة الأدبية اللندنية التايمز في كل عام لاختبار كتاب العام)، وقد دعانا سابقا مع اقتراب عام ۱۹۹۹ من نهايته لترشيح (كتاب الألفية الماضية). بدا لى الموضوع في حينها تافها لدرجة اني لم أنه بإرسال أي جواب، لكن بالمقابل، عندما تثير موضوع (قرن ما)، فإن للكلمة أثرها في الأذهان، إنها تشمل حياتنا وحياة آبائنا، وعلى أكثر تقدير حياة أجدادنا . فكلمة فرن تنبض في ذاكرة الأفراد.
لست أدعى أنثى (اختصاصی) بأحداث القرن العشرين أو ملم بها، كما هو حال المؤرخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة، ولا أطمح لأن أكون كذلك. فالكل على اطلاع بخطوطه العريضة، التي تطالعها على صفحات الكتب. ما يشغلني هنا هو التفسير الحقيقي للوقائع، التي تأتي غامضة في كثير من الأحيان. لا أريد أن ألفي دور المؤرخين، الذين يقومون بالمهمة على أكمل وجه، ما يهمني هو الوقوف عند هذا
التاريخ الذي يدونونه وتأمله، فأنا أنظر إلى هذا القرن كشاهد عيان يعنيه الأمر، وككاتب يحاول فهم الزمان الذي عاش فيه، لا (كاختصاصي).
ويتدخل قدري الخاص ليلعب دورا محدودة من حيث الزاوية التي اخترتها الدراسة أحداث هذا القرن، وذلك من خلال منطلقين: الأول ظروف حياتي الشخصية، والثاني مهنتي التي أمارس. باختصار، لقد ولدت في بلغاريا وترعرعت في هذا البلد حتى عام ۱۹۹۳، الذي كان آنذاك يرزح تحت سيطرة النظام الشيوعي ومنذ ذلك الحين انتقلت للعيش في فرنسا. ومن ناحية أخرى، فإن عملي يقتضي دراسة تطورات الثقافة، والأخلاق، والسياسة، وتحديد تاريخ الأفكار
وخلصت إلى أن هوية الفرد تلعب دورا هاما في اختيار الحدث الأهم في قرن ما، ذلك الحدث الذي يبلور مجرى هذا القرن. فبالنسبة للفرد الإفريقي مثلا، پشگل الاستعمار وتحرر البلاد الحدثين السياسيين الفاصلين. حتى بالنسبة للفرد الأوربي سأتناول هذا القرن العشرين في أوربا بشكل خاص، وسأكتفي بالتلميح إلى أحداث خاطفة في باقي القارات، فإن الباب مفتوح على مصراعيه، هنالك من يقول إن الحدث الأهم يتمثل في تحرير المرأة): حيث إنها دخلت معترك الحياة العامة وتمكنت من السيطرة على عملية الإنجاب (بتناولها حبوب منع الحمل)، وفي الوقت نفسه، انتشار القيم التقليدية التي تتناول أمور المرأة)، بما فيها عالمها الخاص وأثرها على حياة الجنسين، قد يولي بعضهم الآخر أهمية لمواضيع أخرى، کالانخفاض في نسبة الوفيات القاسية لدى الأطفال، أو ارتفاع في متوسط العمر في البلدان الغربية، أو التباين في جداول الإحصاء السكاني ، ويذهب آخرون إلى ترجيح كفة التطور التقني الذي كان له الأثر في تحديد منحي هذا القرن، کهيمنة الطاقة الذرية، وفك رموز علم الوراثة، وتبادل المعلومات بشكل إلكتروني، وأخيرا التلفاز،
إنني أؤيد جميع هذه الآراء، فتجربتي الخاصة لا تضيف أي تفسير لهذه المواضيع؛ بل إنها تدفعني لوجهة أخرى، مختلفة تماما. إن الحدث الرئيس بالنسبة لی، هو ظهور آفة جديدة، نظام سیاسی مبتكر، ألا وهو نظام الشمولية (الحكم
المطلق) الذي من خلاله يتلاشى الفرد، ليذوب في بوئفة المجتمع والدولة. وقد سيطر هذا النظام في أوجه، على جزء كبير من العالم ونراه اليوم قد اندثر من أوربا، ولكنه لا يزال موجودة في بعض القارات؛ حيث تبقى آثاره عالقة إلى يومنا هذا، وأريد هنا أن أتناول العبر التي استنتجناها من المواجهة العدائية التي نشأت آنذاك، بين نظام الشمولية والنظام الديمقراطي.
لا يمكن أن نعي أن القرن العشرين خنع تحت وطأة هاتين القوتين العظمتين، فذلك يستدعي توزيعة لقيم قد لا تروق للجميع. يكمن أصل المشكلة في أن أوروبا مرث بنظامين شموليين، ألا وهما النظام الشيوعي والنظام الفاشي: بدا الأمر بصراعهما الفكري العنيف، ثم ما لبث أن انتقل إلى ساحات القتال. و في كل مرة كان أحدهما بلقي تأييدأ من الدول ذات النظام الديمقراطي، حيث كان يتحالف تیاران منهم ضد التيار الثالث؛ ففي بادئ الأمر، اتفق الشيوعيون كافة على تنحية أعدائهم (وكانوا من الرأسماليين)، وظهرت كل من الديمقراطية الحرة والفاشية على انهما شكلين متطورين ومتطرفين للمرض نفسه، وعلى الرغم من ذلك، وفي منتصف الثلاثينات، وبشكل أدق خلال الحرب العالمية الثانية، تغير الوضع، فتحالف كل من النظامين الديمقراطي والشيوعي ضد الفاشية. وأخيرا وفي السنوات القليلة التي سبقت اندلاع الحرب، وتلك التي تلتها، تم الاتفاق على اعتبار كل من الفاشية والشيوعية نظامين تابعين للنظام الشمولي، ويعود أصل المطالبة بتلك التسمية للفاشية الإيطالية، وأراني سأتطرق فيما بعد للتعريفات و التسميات, وكما يتضح من خلال هذا السرد للوقائع، أن هذا التصنيف بنظري هو الأوضح
إن اختياري للحدث المميز هو الذي يحدد بشكل ملموس، الموضوع الذي أتناول فمن حيث المكان، سأكتفي بعرض ما جرى في القارة الأوربية، التي أتبث منها، وسأتناول أبرز الأحداث التي جرت فيها، مما أثر على الحقبة الزمنية المحورية، وساتطرق للأحداث التي جرت بين عامي ۱۹۱۷ و۱۹۹۱ بشكل رئيسي، وفي بعض الأحيان أجدني مضطرة للرجوع إلى فترة تسبق هذا التاريخ، أو للوقوف عند العقد الأخير من هذا القرن، والأهم من هذا كله، سأكتفي بمظهر واحد من الحياة العامة

إرسال تعليق