نشر هذا الكتاب مرة واحدة عام ۱۹۷۸م في بيروت، ولم ينشر ثانية، برغم أهميته الفائقة في إلقاء الضوء على مرحلة فارقة في حياة مؤلفه العلامة، وتطوره الفكري فهذا الكتيب عظيم القيمة، برغم صغر حجمه؛ يطوي كل مقولاته الرئيسة التي بني عليها مشروعه الفكري العملاق الذي تتلمذ عليه جيل كامل من الشباب
العربي
في هذا الكتاب يستخدم الأستاذ كل أدواته لتحقيق خلاصه الروحي: النقد الأدبي، والتحليل الماركسي، وبقايا تعاليم الدين السوسيولوجي الذي خرج به من دمنهور، وفطرته الإنسانية، يستخدمها جميعا بإخلاص وحرارة بارعين، فلا يرفض المادية فقط، بل يرفض كل تجلياتها، وأخطرها: الطوبيا، أو الفردوس الأرضي كما يسميها، يرفض أي خلاص دنيوي نهائي يقوض الإنسان. يرفض أي فردوس براني في هذا العالم؛ فالفردوس الأرضي الحقيقي ليس برائیا أبدا، بل هو فردوس جواني: "الفردوس القلبي"، الذي اكتشفه المسيري مع مالكوم إكس؛ فردوس الإيمان
لقد عبر عبد الوهاب بهذا الكتاب من المادية إلى الإنسانية والإسلام. فمما ذكره رحمه الله في مسيرته، أن مالكوم إكس كان دليله للإسلام، ومن يقرأ الفصل الذي عقده الأستاذ عن الحاج مالك الشباز امالكوم إكس)؛ فسيدرك كيف كان مالکوم الأمريكي هو مدخل عبد الوهاب العربي إلى الإسلام وإذا كانت سيرة المسيري الفكرية تتبع ولادة أفكاره ومنهجه، وكانت سيرته الشعرية ترسم تحولات وجدائه، فإن هذا الكتاب ربما بغير قصد- يجمع بين السيرة الفكرية والشعرية، إنه لوحة امتزج فيها الفكر والشعور في لحظة تحول إنساني فذة. إنه کتاب کتب بنور القلب ومداد العقل معا.
يعيش الإنسان جزءا من الطبيعة، شأنه في هذا شان الكائنات العضوية الأخرى؟ يولد ويموت، ينطبق عليه ما ينطبق عليها من قوانين طبيعية حتمية، إن دخل النار احترق، وإن ألقى بنفسه من شاهق ؤقت عنقه، وإن تعرض للبرد هلك، وحينها تفسد خلايا جسمه فهو يتحلل ويتحول إلى تراب تذروه الرياح.
ولكنه إلى جوار هذا يعيش في بناء مستقل عن الطبيعة من صنع يديه، هذا البناء هو التاريخ؛ ولذا فالإنسان لا يخضع لقوانين الطبيعة وحدها، وإنما يخضع القوانين التاريخ أيضا، وهي قوانين مغاير لقوانين الطبيعة رغم ارتباطها بها، ورغم اعتماد البيئة التاريخية على البيئة الطبيعية، والتاريخ هو تراكم خبرات الإنسان في مجابهته الطبيعة؛ ولذا فهو يمنح الإنسان من المعرفة والوعي ما يمكنه من الحكم في الطبيعة وتوظيفها لصالحه، هذه الازدواجية هي ما يسمى الوجود الإنساني؛ أن يعيش الإنسان داخل جسده الطبيعي يحمل وعيه والتاريخي». والجسد والوعي رغم ارتباطها منفصلان الواحد عن الآخر؛ فيينا يؤكد الأول انتهاءه لعالم الحيوان، يؤكد الثاني انتماءه لما هو غير حيواني. وبين هذا الشد والجذب، يعيش الإنسان أيامه الأرضية لا مخرج له منها، کفري او کجاعة.
وهذا الشد والجذب في نظري هو مصدر جدلية الوجود الإنساني، فالإنسان قد ترك الطبيعة الدائرية وسقط في التاريخ وحدوده، ولا يمكنه إلا تقبل هذا الأمر. ولكنه مع هذا قليا يقنع بها هو قائم، وإنما يثور ضده دائما ويحلم بها هو أفضل خاص حينما ينظر إلى ذاته، فيرى الإمكانات الهائلة داخله و داخل وجوده الإنساني. وحلم الإنسان هذا هو يدفعه للثورة والتمرد. ولقد كان الحلم بالعصر الذهبي دائما استعارة الحالة من الكمال الإنساني نطمح لها ونحاول تشييدها عالمين مسبقا بأن الكمال لا يمكن الوصول إليه؛ لأن الكمال ليس من سمات الوجود الإنساني الجدلي، ولذا كان على الإنسان على المستويين الفردي والجماعي أن ينشد الخلاص، ولكنه خلاص داخل حدود. إذ إنه كان يفصل دائما بين السبي والمطلق، باحثا عن المطلق خارج التاريخ، ويظل التاريخ هو مجال المحاولة والخطا. والفكر الثوري يصدر عن رغبة أو حلم في الحياة الأفضل، ولكن الرؤية الثورية الحق تعترف بأهمية التاريخ وحدوده رغم محاولتها توسيع هذه الحدود. وهي تؤمن بأن الإنسان لا يمكنه حل جميع التناقضات، لأن حل بعض التناقضات ينتج عنه تناقضات أخرى، أي إن التاريخ لا نهاية له، ولن نصل بتاتا إلى لحظة السكون التي يتحقق فيها الفردوس الأرضي، والتي بنتفي فيها الجدل، ويتداخل فيها المطلق والنسبي، ويصبح التاريخ دائريا مثل الطبيعة. والرؤية الثورية الحق لا تريد العودة إلى البراءة الأولى إلى التكامل المطلق، وإنها تحاول الوصول إليها جزئيا وتدريجيا من خلال حدود التاريخ، ودون أي محاولة لتدميره. وقد لخص مارکس لب الموقف بتعريفه للحرية على أنها معرفة قانون الضرورة، فالوصول للبراءة الأولى أو الحرية المطلقة (الطبيعية) مستحيل باعتبار أن قوانين الضرورة الطبيعية تتحكم فينا. ولكن يظل الاقتراب الجزئي ممكنا عن طريق التحكم النسبي في هذه القوانين بواسطة الوعي والتاريخ الإنساني، ويظل الفردوس الذي لا حدود له حلا، وليس کيانا أرضيا متحققا ساكنا أزليا صوفيا. إذ إنه لا حرية إنسانية خارج القانون والحدود
إرسال تعليق