عبر صفحات هذا الكتاب يستدعي طارق البشري صورة واضحة لما كانت عليه مصر في هذه السنوات المهمة، من ۱۹۲۰ إلى ۱۹۶۲، فعاد إلى جذورها وتأصيلها، وسلط الضوء على معالمها. ولقد اتبع في ذلك منهجا متميزا وغير تقليدي، فهو يطرح التساؤلات ويجيب عنها. كما يضع لنا شخصية سعد زغلول تحت المنظار، ويبين كيف أثر فيه التكوين القانوني من حيث المناورات
والإصرار أمام التعنت البريطاني على أن استقلال مصر لا يتجزأ
وذكر البشري ما سجلته صفحات الكتاب الإنجليز المضادة للزعيم المصري وكذلك رؤية المؤرخين المصريين، واعتمد البشري في استقاء معلوماته على مصادر ومراجع متنوعة، من الوثائق الإنجليزية غير المنشورة والمحفوظة بوزارة الخارجية البريطانية، والوثائق المصرية المنشورة، والتقارير والخطب والدوريات، وما كتبه المصريون والإنجليز المعاصرون للأحداث، وأيضا المحدثون
ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة في المكتبة التاريخية، لذلك تعيد نشره لتعريف القراء وخاصة الشباب على كينونة الزعامة، تلك التي تثبت أقدام مصر، وتصون كرامتها، وترفع رأسها، وتبرهن على أن أرض الكنانة لها المكان والمكانة.
أربع سنوات إلا بضعة أيام - منذ 9 من بوئية ۱۹۲۰ حتى 3 من أكتوبر ۱۹۲۹ - من مر تاريخ الحركة الوطنية المصرية، جرت أثناءها مياه كثيرة تحت الجسور، وهي تعد من أخصب الفترات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر لما احتوته من احداث سواء وقعت على أرض الوطن أو بعيدة عنه في باريس ولندن.
ومن المعروف أن ثورة ۱۹۱۹ تعتبر من أهم الثورات التي اشتعلت نتيجة لأسباب متعددة والتي تمخض عنها توهج للقضية المصرية، رفع لواءه وطنيون ترت هم القيادة، وكان الوفد البوتقة التي جذبت إليها مختلف القوى الاجتماعية، وبطبيعة الحال احتل سعد زغلول موقعه المتميز والمنفرد على خريطة الحركة الوطنية، فأصبح الزعيم صاحب الكاريزمة، تلك التي تمكنت من أن تتخلل إلى قلوب المصريين، وما زال إلى اليوم رمزا للكفاح ضد الإمبريالية البريطانية ورسولا لليبرالية، ويشهد له ذلك التخليد في تماثيله المقامة بميادين مصر، واسمه الذي أطلق على شوارعها
تحمل سعد زغلول ورفاقه النفي بقسوته، وعندما أفرج عنهم وسافروا إلى باريس اليطالبوا بحق مصر في أن تعود إليهم، أوصد الباب أمامهم، فقصدوا لندن للتفاهم والاتفاق بشان إلغاء الحماية البريطانية والحصول على الاستقلال، ومن هنا بدات سلسلة طويلة من المفاوضات المصرية البريطانية لم تنته إلا بعقد اتفاقية الجلاء عام 1954، وكانت الباكورة على يد سعد زغلول الذي أجرى محادثات مع هيرست (Hurst) المستشار القضائي بوزارة الخارجية البريطانية وعضو لجنة ملئر (Milner) وزير المستعمرات في باريس، وذلك كمرحلة تمهيدية، أعقبها مباشرة سفره مع زملائه
إلى لندن، حيث عقدت عدة لقاءات، كان أولها في 9 من يونية ۱۹۲۰، وآخرها في ۱۰ من نوفمبر من العام نفسه، ولم ترق هذه المحادثات إلى درجة المفاوضات، لأن الوفد لم تكن له صفة رسمية رغم اعتراف المسئولين الإنجليز به، وقد تحققت الصفة مع المفاوضات التي تمت بين عدلي يكن رئيس الوزراء وكيرزون (Curzon) وزير الخارجية البريطاني (۱۳ من بولية - ۱۹ من نوفمبر ۱۹۲۱)، ثم مفاوضات سعد زغلول أثناء توليه رئاسة الوزراء مع مكادونالد (Ramsay MacDonald) رئيس الوزراء البريطاني (۲۰ من سبتمبر - ۳ من أكتوبر ۱۹۲4). ولم تسفر جميعها عن مكاسب لمصر، لكنها أثبتت صلابة مواجهة سعد زغلول لغلاة المستعمرين الإنجليزه
وقد مرت مصر إبان هذه الفترة باحداث متلاحقة في ظل توهج الحركة الوطنية، من نفي سعد زغلول ورفاقه مرة أخرى ثم العودة للوطن، وإعلان بريطانيا تصريح ۲۸ من فبراير ۱۹۲۲، وتحول مصر إلى النظام الملكي، وصدور دستور ۱۹۲۳، وإجراء أول انتخابات برلمانية نزيهة جاءت بالوفد للحكم، وتشكيل سعد زغلول وزارة الشعب (۲۸ من يناير - ۲4 من نوفمبر ۱۹۲۶) التي ما لبثت أن قدمت استقالتها عقب اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان.
كان هذا المناخ المفعم بالأماني الوطنية قد أغرى القانوني الجهبذ والمؤرخ الكبير والمفكر الواعي المستشار طارق البشري أن يعيش في كنفه ويلتقط خيوط أحداثه ووقائعه ويكتب عنها بمهارة وحرفية في كتابه المهم اسعد زغلول يفاوض الاستعمار.. دراسة في المفاوضات المصرية البريطانية ۱۹۲۰ - ۱۹۲۶، الذي صدر في طبعتين (۱۹۷۷، ۱۹۹۸)، وللبشري مؤلفات قيمة، طبعت عدة مرات، منها: الحركة السياسية في مصر 1945- ۱۹۵۲، والمسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، ودراسات في الديمقراطية، والديمقراطية ونظام ۲۳ يوليو، والملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، وشخصيات تاريخية، وبين الإسلام والعروبة، وبين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، وغير ذلك من الكتابات المهمة.
ويتميز البشري بالدقة والنقد والتحليل والرؤية الفلسفية ومراعاة الظرف التاريخي والأمانة، ليس فقط مع المادة العلمية التي اعتمد عليها في معلوماته، وإنما أيضا مع
إرسال تعليق