ميرامار لــ نجيب محفوظ




الإسكندرية أخيرا.
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء ، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع .
العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قدیم، پستفر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك . كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة ، وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض ، يجلل جنباته
النخيل وأشجار البلح، ثم يمتد طرف قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوى يكاد يقوض قامتی النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية
ماريانا، عزیزتی ماريانا، أرجو أن تكوني معقلك التاريخي، كالظن وكالمأمول، وإلا فعلی و علی دنیای السلام. لم يبق إلا القليل، والدنيا تتكرر في صورة غريبة للعين الكليلة المظللة بحاجب أبيض منجرد الشعر.
ها أنا أرجع إليك أخيرا يا إسكندرية .






ضغطت على جرس الشقة بالدور الرابع , فتحت شراعة الباب . فتحت شراعة الباب عن وجه ماریانا . تغيرت كثيرا يا عزيزتي. ولم تعرفني في الطرقة المظلمة، أما بشرتها البيضاء الناصعة وشعرها الذهبي فقد توهجا تحت ضوء ينتشر من نافذة بالداخل -
- بنسيون ميرامار؟ - نعم يا فندم - أريد حجرة خالية .
الباب فتح. استقبلني تمثال العذراء البرونزي . ثمة رائحة مالعلی أفتقدها أحيانا. وقفنا نتبادل النظر. طويلة رشيقة، الشعر ذهبي، والصحة لا بأس بها، ولكن بأعلى الظهر أحديداب، والشعر مصبوغ حتما، واليد المعروفة وتجاعيد زاويتي الفم تشی بالعجز والكبر. إنك يا عزيزتي في الخامسة والستين رغم أن الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها. ولكن هل تتذکریئی؟
نظرت باهتمام تجاری بادئ الأمر، ودققت النظر، ثم اختلجت العينان الزرقاوان. ها أنت تتذكرين، وها أنا أسترد وجودى الضائع .
- أوه .. أنت! - مدام!
تصافحنا بحرارة، غلبها الانفعال فقهقهت ضاحكة, کنساء الأنفوشي قهقهت، وأطاحت بالوقار بضربة واحدة .
- يا خير أبيض، عامر بك، أستاذ عامر، ها.. ها..
جلسنا على كنبة الأبنوس تحت العذراء وشبحانا بنخايلان في زجاج صوان المكتب القائم للزينة.
نظرت فيما حولي وقلت : - مدخل البنسيون هو هو لم يتغير

فقالت محتجة ، ملوحة بيدها بفخار : - بل تجدد وطلی مرات، وعندك أشياء جديدة كالنجفة والبارفان
والراديو .. - إني سعيد يا مريانا، الشكر لله على أنك في صحة جيدة. . . وأنت أيضا يا مسيو عامر، ألمس الخشب .. - عندي المصران الغليظ والبروستاتا، نحمده على أي حال.. . أتجيء بعد زوال الصيف؟ قلت باهتمام - بل جئت للإقامة ، متى تلاقينا آخر مرة؟ - منذ... منذ... أقلت للإقامة؟ - نعم يا عزيزتي، رأيتك آخر مرة منذ حوالي عشرين عاما .. - واختفيت طيلة ذلك العمرا | - العمل، والهموم. - أراهن على أنك زرت الإسكندرية مرات ومرات في تلك الأعوام .. . - أحيانا، ولكن وطأة العمل كانت شديدة، وأنت أدرى
بالصحافة .. - وأعرف أيضا جحود الرجال .. ۔ ماریانا يا عزيزة ، أنت أنت الإسكندرية .. - تزوجت طبعا.. - کلا بعد! تساءلت مقهقهة . ومتى تتم النية وتقدم؟

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget