نحو تيار أساسي للأمة لــ طارق البشري




يستند التيار الأساسي لبلد ما إلى أكبر قاسم مشترك بين التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا البلد، ويعني الملامح العامة المتضمنة في أطروحات تیارات عديدة ومتنوعة. وهذه الملامح تختزل ما تتفق عليه هذه التيارات في سياق تعاطيها مع متطلبات المرحلة التاريخية
تمثل فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى من تاريخ مصر حالة قياسية تجلي صورة مفهوم التيار الأساسي، رغم كثرة التحديات
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في هذه المرحلة الحساسة، كان مطلب جلاء المستعمر يمثل أولوية ملحة وشرطا ضروريا للشروع في عملية نهوض حقيقية. ويكاد هذا المطلب يكون مشترکا بین كل القوى السياسية والاجتماعية المصرية. إن التيارات السياسية والفكرية، وإن اختلفت غابائها وتنوعت، تلتقي عند غاية النهوض باعتبارها المدخل الرئيس المستقبل أفضل لمصر، لقد شمل هذا الفهم مكونات الحركة الوطنية سواء أكانت شخصيات تاريخية فاعلة، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز جاویش، أم أحزابا ناشطة في الحقل السياسي آنذاك
نعم، كان هناك اتجاه آخر يقول: إن ضعفنا هو الذي أغرى المستعمر بنا وزين له القدوم إلى بلادنا واحتلالها ومصادرة قرارها وخيراتها، ومن هنا يكون الأجدر

بنا تدارك نقاط الضعف وتقوية الجبهة الداخلية أولا، ثم صنع شروط القوة لأنفسنا قبل المطالبة بجلاء المستعمر
من الممكن أن نقر بوجود رؤيتين؛ فأما الأولى فمن الممكن أن نصفها بالثورية نظرا لتركيزها على مطلب التخلص من الاستعمار، و أما الثانية فمن الممكن أن تنعتها بالإصلاحية لكونها تجعل مراجعة الذات واستصلاح أحوالها على رأس غاياتها ونظرا للهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين، فقد نشب صراع بين التيارين ليستمر الصراع بينهما إلى ما يزيد عن عقد من الزمن. ومع ذلك، فقد قدر للهدفين أن يلتقيا سنة ۱۹۱۹، فيتصالح المطلب التحرري مع المطلب الإصلاحي ليكونا الإطار العريض المستوعب لمكونات الحركة الوطنية في كنف الاحترام لكلتا الرؤيتين اللتين أصبحنا وجهين لعملة واحدة هي الحركة الوطنية
لقد كان جديرا بكل طرف أن يعترف بالقيمة الموضوعية للطرف الآخر، حيث إن كليهما عبر بطريقته ومن الزاوية التي اعتقد فيها الصلاح عن الوضع في البلاد، وعن المطالب الوطنية التي كانت ترمي إلى تحريك عجلة النهضة وتوجيهها نحو الأهداف المنشودة، فالمساحة المشتركة التي نضجت من خلال التدافع والتلاقي بين النظرتين هي ما يمكن أن نطلق عليها تسمية التيار الأساسي، لأن المصريين، على اختلاف مشاربهم، كانوا معنيين فعلا بمطلبي التحرر والإصلاح، نظرا إلى أن العلاقة بين هذين القطبين هي علاقة تلازم، يقتضي الواحد منهما وجود الآخر.
بلورت تلك المرحلة التاريخية، بما شهدته من جدل ثري و ساخن بين الاتجاهين أحيانا، تجربة اتسعت لتعبيرات مختلفة وجدت نقطة الالتقاء فيما بينها، حيث جسم التقاؤها ذاك تنظيما حشد الجهود منذ عام ۱۹۱۹ و حتی ۱۹۵۰ خدمة للهدف الوطني المشترك الكبير.
في هذا السياق، يمكننا أن نعطي مثالا ثانيا متعلقا بفترة الخمسينيات، أي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. حيث كان المعترك السياسي خلال تلك الأيام






بجمع في ساحته أحزابا من قبيل الوفد التقليدي المتمسك بالمفاوضات کسبيل أفضل من وجهة نظره لإخراج المستعمر مع الاحتفاظ بما يعتبره مكاسب ديمقراطية المصر ، كما كان يجمع في الوقت نفسه أيضا الإخوان المسلمين، الذين كانوا يطرحون الإسلام كمرجعية للحركة الوطنية. وفضلا عن الوفد والإخوان، كان هناك الحزب الوطني الذي كان يرفع مطالب أكثر تحديدا وتشددا، تتعلق بالمطلب الوطني المتمثل في إجلاء المستعمر والتخلص من نفوذه، كما كانت هناك أيضا الحركة الاشتراكية التي تطالب بقدر أكبر من العدالة الاجتماعية.
إن التأمل في مختلف المكونات السياسية يدفعنا إلى القول بأن التيار الأساسي لم يتشكل في تلك الآونة، الشيء الذي فوت عليها فرصة ذهبية للجمع بين محاور الوطنية والاستقلال والديمقراطية والمرجعية الإسلامية والعدالة الاجتماعية في نضالها السياسي، لقد مثلت تلك المطالب العناوين الكبرى التي كان الشعب المصري يتطلع إلى تحقيقها على أرض الواقع بغية تحقيق إطار أساسي ينظم العلاقة بين هذه المكونات المختلفة ويتسع لمختلف التعبيرات دون التنكر للأولويات الوطنية التي تقتضيها المرحلة التاريخية. |
شهد عام 1951 بوادر تشکيل ذلك التيار الأساسي حيث كانت القوى المضادة تدرك الدلالة الفوية لانبعاث مثل هذا التيار، كما تعي جيدا حجم التداعيات التي كان من الممكن أن تنجم عن تجسده في الواقع، بقدر ما عبرت ثورة الثالث والعشرين من يوليو سنة ۱۹۵۲ عن فكرة هذا التيار وجسدتها تجسيدا منحها الزخم والطاقة اللازمين للانطلاق والاستمرار - بالرغم من العوائق الذاتية والموضوعية الكبيرة التي اعترضت مسيرتها الصعبة . ولكن التشكل الشعبي دفع الثورة باتجاه التقوقع داخل مؤسسة الدولة والاستسلام لإكراهاتها
من المؤكد أن فكرة التيار الأساسي أكبر من أن يجليها سرد لبعض الأمثلة، ولكنتا بهذا السرد إنما أردنا الاستدلال على تحفتها الموضوعي في لحظات معينة من التجربة السياسية في مصر الحديثة .


إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget