صباح الورد لـ نجيب محفوظ




الو رجعت إلى الذاكرة ما وجدت إلا صورا متناثرة لا تعني شيئا. قمرا يطل من نافذة عالية، أقمارا ثلاثة يخرجن من تحت القبو صفا واحدا، حنطورا پنهادي في الميدان بامرأة كالحمل. الزمن القديم في الحي العتيق، لم يبق من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة. مناظر غائمة وأصوات غائبة وحنين دائم وقلب يخفق كلما حرکته روائح الذكريات . ما كان أجدر ذلك كله أن يتلاشى في ظلمة الماضي، فلا
يستطيع الحب أن يستنقذه من الموت، لولا خالدة الذكر أم أحمد. قوية ، سمراء، متحدية، في ملاءتها اللف ووجهها السافر وشبشبها الرنان وصوتها الغليظ النافذ ولسانها الذي لا يهمد ولا يعرف الحرج. بينها كان يقع ملاصقا للشرفة التاريخية لبيت القاضي، يصل إليه الزائر من ممر ضيق منصاعد مثرب، في جانبه کارو قديمة مركونة مهملة، وأحيانا یری حمارا واقفا بقتات التين من مخلاة تطوق علاقتها عنقه، كان يشدني إلى مأواها العربة المهملة والأمل المثابر العنيد في الالتقاء بالحمار الهادئ العذب ، وهناك أراها وهي تطهو الطعام أو تطعم الدجاج أو تتسلی مشاجرة شفهية عابرة. في شبابها اليافع - الذي لم أشهده - كانت زوجة المعلم کارو .
أنجبت منه بكريها أحمد وزينب وسيدة وستية. ولعلى لمحت الرجل وابنه مرة أو مرات کشيئين من الأشياء التي يموج بها الميدان التاريخي، میدان بیت القاضي، ولكني علمت مع الأيام أن المعلم قتل في معركة

بأرض المماليك وأن أبنه أحمد مات في السجن. ولم أشهد أم أحمد في حزنها، حتى حين لحقت زینب بأبيها وأخيها المرض فتك بها في زمن متأخر نسبيا، كلا، لا أذكر أني رأيتها باكية أو مولولة أو شبه بائسة، ما عهدتها إلا متماسكة قوية ضاحكة أو محدثة، غارقة حتى قمة رأسها في أعمالها. ومشروعاتها، تعيش يومها وتبني للغد. وأذكر قول أمي عنها الولا نوتها الخارقة لأهلكتها الأحزان، وهو قول لم أع معناه تماما إلا فيما بعد، فعلمت أن أم أحمد التي عرفتها ما هي إلا الثمرة الأخيرة الصراع طويل مع الألم کتب لها فيه النصر. فمنذ وجدت نفسها وحيدة توثبت بهمة صلبة للكفاح في الحياة المتاحة حتى ظفرت بوظيفتها المرموقة في الميدان والحارات المتفرعة عنه فباتت أشهر شخصية دون منازع. هي الخاطبة والماشطة وأخصائية التجميل والسعادة الزوجية ، وشفت طريقها إلى سرايات الحي جميعا وبيوت الطبقة الوسطى، إلى فبامها بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسنت أحوالها، ثم توجت كفاحها بتشيد بیت لها من طابقين على كثب من قسم الجمالية . والحقت سيدة بالمدارس فصارت معلمة أما بنتها الصغرى وكانت أجمل إنتاجها كله فقد أحبها ابن الأسرة الساكنة في الطابق الأول من بينها وتزوج منها وأصبح فيما بعد من رجال التربية الكبار في مصر. المهم أن أم أحمد جذبتنی بسحر حکایاتها عن الجيران، وخاصة أهل الطبقة العليا، وهي حكايات لا يعرف مدى الصدق فيها إلا الله ولكنها تحرك الشهية دائما لدورانها حول أولئك السادة الممتازین. ولم تنقطع أم أحمد عن زيارتنا عقب انتقالنا إلى العباسية، فقد سبقنا أهل السرايات إلى العباسية الشرقية، فانتقل المجال الحيوي لأم أحمد من حي الحسين إلى العباسية تبعا لذلك مؤصلة ممارسة وظائفها الساحرة، ولم تتوقف عن نشاطها حتى بعد أن تقدم بها العمر، أو بعد أن أدت فريضة الحج وأمست الحاجة أم أحمد، ولكنها اضطرت إلى لزوم دارها بعد أن






زحف عليها العجز وضعف بصرها وقلت حركتها قبل رحيلها عن الدنيا في ختام الثمانينات. ولا أزعم أنها أحسنت تعريفي بأفراد السادة والسيدات من أهل سرايات حارتنا، ولعلها هي نفسها لم يتح لها أن تعرف حقيقتهم ولكنها اهتمت بعموميات لا بأس بها وبشئون مما يتصل بعملها، وعلى أي حال فقد عرفت حقائق عن الأسر ككل كما عرفت أشياء عن مصائرها، وهي في جملتها تعد ثروة هامشية تضاف إلى التجارب التي حملها الإنسان بنفسه وحواسه وقلبه، ورغم ما عرفت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حظيت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة مرموقة بين أرقی سيدات ذلك الزمان، ولن أنسى أيضا منظرها وهي واقفة فوق الكارو بين جارات لها في إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوي لسعد ومصر.
وحارة قرمز ذات جدران حجرية عالية، تغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسر إلا لمن ينظر في داخلها، هناك پری ریعا آهلا بالفقراء والمتسولين يجمعهم الفناء للعمل المنزلي وقضاء الحاجات، أو يرى جنة تغنى بالحديقة والسلاملك والحراملك. من نافذة صغيرة عالية نبيل القبو يلوح أحيانا وجه أبيض كالقمر، أراه من موقعي في نافذة بيتنا الصغير المطلة على الحارة فاهيم رغم طفولتي في سحر جماله، وقد أسمع صوته الرخيم وهو يبادل أمي التحية إذا خلت الحارة من المارة فلعله بث في روحي حب الغناء، فاطمة العمري، حلم الطفولة المجهول، وموعد اللقاء النافذة، وإذا توارت يوما فإنما لتلقنني الألم قبل أوانه. وكلما غابت حدجت أمي بنظرة عتاب كأنما هي المسئولة عن غيابها فتضحك طويلا ونحكي لأم أحمد عن العاشق الصغير لتتلقف الخبر لتزفه إلى فاطمة ثم ترجع إلينا برسالة سعيدة أن أشد حيلي وأنها ستنتظر عريس الهنا مهما يطل الانتظار . ثم تقول:

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget