بيت سىء السمعة لــ نجيب محفوظ

بيت سىء السمعة  لــ  نجيب محفوظ



لم تبق إلا أيام معدودة قبيل الرحيل. لذلك بدت الإسكندرية لطيفة جذابة كما ينبغي لها قبل الرحيل. وهو لا يدري متى يراها مرة أخرى إذ إنه يمضي عطلته عادة عند الأمل في الريف ، ولذلك فالذي كان موطئا اللوحشة والملل انقلب مبعا للحنان والأشواق في نظرة الوداع ، حتى مجلسه المعتاد منذ أربع سنوات بقهوة سيدي جابر . تجدد للتو شبابه ، وقال لنفسه وهو يدخن النارجيلة: هيهات
أن يجد جوا مناسبا لترطيب التبغ کجو الإسكندرية ، أما النادل الذي جاء بالقهوة فقد قال بأسف:
- ستوحشنا كثيرا با بيه،،
فابتسم إليه شاكرا، وعند ذلك دخلت امرأة . هي.. هي التي تتردد على القهوة من شهر لآخر، التي أطلق عليها امرأة سيدي جابر، التي تجاهلها طوال أربعة أعوام، وكانت اختفت منذ أواخر الصيف. ها هي ذي في فستان شتوی، مطوقة الوجه بإشارب وردی، متلفعة بشال مرصع بالترتر، ملابس توافق الخريف الزاحف وتلك السحب البيضاء التي أخفت قرص الشمس وطرحت لونها الهادي الغامض على الشوارع شبه المقفرة، وجلست إلى جانب الرومي صاحب القهوة، و تبادلا كالعادة قليلا من الكلام وكثيرا من الصمت، يغشاهما جو حاد كأنهما رجلان، ومن رجال الأعمال على الأرجح. وذاك شأنهما من زمان ، ومرة همس النادل في أذنه

- أليست جميلة؟ ..
رأى عينين واسعتين مقتحمنين، ووجنتين ريانتين، وإغراء في هالة من الثقة بالنفس والحنكة، فقال وقتذاك دون تردد :
ليس الطراز الذي يوافقني ..! اليوم تبدو مغرية فحسب كالإسكندرية قبيل الرحيل، وقال للنادل : - أربعة أعوام عشتها في الإسكندرية ومع ذلك فلم أزر - ولو مرة
واحدة - لاحديقة الحيوان ولا أنطونيادس ولا الآثار الإغريقية الرومانية ولا هذه المرأة قابتسم النادل قائلا: - وأسيوط لن تجد فيها شيئا..
وبعث إلى المرأة بنظرة بدائية ولم يكن في القهوة إلا منهم كان في النرد، فأجابته بعمق ، فقال للنادل :
- أرني شطارتك ..





انتقلت إلى جانبه، ثم تبعها النادل بزجاجة بيرة، وراح يؤكد لها أن تعارفهما فرصة سعيدة حقا، فقالت بدلال بارد:
- أنت كشجرة المانجو ..! فرفع حاجبيه مستفهما فقالت: - تحتاج إلى خدمة طويلة وصبرا
فهرب من الاعتذار برفع قدحه هامسا أصحتك»، وقضمة الزيتون الأخضر وهما يترامقان في صمت حتى قال :
- البيت على بعد دقائق ! فقالت بلا تلعثم: - جنبهان!.. والأن من فضلك ..

ودستهما في حقيبتها وهما يغادران القهوة، وأثنت على الشقة الصغيرة المهندمة فأثني بدوره على البواب صاحب الفضل. وجاء بطبق فاكهة ووضعه على خوان على كثب من الفراش، وسرعان ما تعانقا دون ما كلمة واحدة، وامتلأ الصمت بتعابير غامضة وهمسات من عالم آخر. واستحكم ظلام المغيب في جو الحجرة المغلقة . وارتجت مصاريع النوافذ بريح مباغته كما يقع كثيرا في الخريف. وما لبث لحن المطر أن عزف فوق الجدران. ورفع إلى النافذة القريبة نظرة محمومة ثم همس مستسلمان
۔ جو متقلب لا أمان له.
ولكنه استمتع بدفء وراحة عميقة. وانتبه إلى الظلمة الشديدة فمد بده إلى الأباجورة فأضاء مصباحها. ولحن المطر ما زال يعزف ولكنه خف جدا مرحبا بالختام، ونظر إليها فرآها مغمضة العينين كالنائمة. وهاله منظر جفنها الكبير كورقة وردة. ولاحت منه نظرة إلى المرأة البيضاوية فرأى صورة لشخصه تستحق الرثاء. وكف المطر عن العزف تماما. وسألها:
- نائمة؟ فأجابت دون أن تفتح عينيها: . لا أنام قبل الفجر ...
ونشر موزة ورشقها برفق بين شفتيها الغليظتين فجلست نصف جلسة وتسليا معا بالفاكهة. وقالت : - قال الخواجا إنك مسافر بعد غد... ولكن ما اسمك؟
وتذكر وهو يدارى ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف. قال إن اسمه بركات، موظف منقول إلى أسيوط، فقالت وهي تمسح ظاهر يدها بباطن قشرة الموز:


إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget