الملامح العامة للفكر السياسى الإسلامي لــ طارق البشرى



أتصور أنه، لكي نتلمس رؤية المستقبل للحركة الإسلامية ، يحسن بنا أن نطالع ملامح الوعاء الزمني الذي تعمل فيه هذه الحركة . والزمان المعاصر في تاريخنا ، يتكون من هذين القرنين الأخيرين، وقد شارف القرن الثاني منها على نهايته، وصرنا على مشارف قرن ثالث، يبدأ معنا بالملامح عينها التي صبغت تاريخنا المعاصر منذ بداية القرن التاسع عشر.
أمام الحركة الإسلامية في بلادنا مهام جد متعددة ومتنوعة ، في مجالات الفكر والفقه، والنظم السياسية والرؤى الحركية، وفي تشييد المؤسسات، ورسم العلاقات في هذه المجالات ، وغيرها ، أمامنا العديد من المشكلات ، منها على سبيل المثال : مسألة التجديد مع المحافظة على الأصول، والتجديد يعنى التحرك الفكري، والمحافظة على الأصول تعني الصمود ، ومنها الانفصال الحادث بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، وهو انفصال طرأت تداعيائه مما ألم بنا من توجهات الغرب في القرنين الأخيرين ، وعلينا أن تعيد المزج والدمج بين هذه العلوم جميعا، كما كان فقهاؤنا القدامى يعتبرون العبادات والمعاملات أبوابا من علم واحد، ومن المشكلات أيضا، تلك القطيعة بين الفكر والنظم الوافدة من الغرب والفكر والنظم الموروثة، وهي قطيعة تتعمق في وعي الناس عبر السنين، ومن ذلك أيضا، هذا الازدواج في بناء المؤسسات والنظم والهيئات، سواء في التعليم أو في القضاء أو في مؤسسات الإدارة والحكم أو في الاقتصاد. ومنه أيضاء هذا التنوع الكبير للرؤى الإسلامية للواقع الراهن، أو هذا الغموض الذي يعوق حسن إدراكنا للأوضاع المعيشة، ولما يتعين علينا اتخاذه من الذرائع لحفظ الجماعة الإسلامية والنهوض بها .

وليس آخر تلك المشكلات، مشكلة التفتت التي تعاني منها أوطاننا، أي هذه التجربة الإقليمية والقطرية التي صرنا إليها عبر القرنين الأخيرين، وما أدى إليه هذا الوضع من ظهور عناصر التباعد والتنافر في كل قطر إزاء غيره، حتى تكونت عوائق ذاتية صارت تكبح نمو حركات التوحد العربي والتوحد الإسلامي، لأن التجزئة قد غایرت مسن أوضاع كل قطر إزاء غيره ، في أمور الاقتصاد والسياسة وبناء النظم والمؤسسات، وهذه المغايرة تشكل عوائق أمام مساعي التوحد، منى وجدت تلك المساعی، وحيث وجدت
إن تاريخنا المعاصر بدا بحركتين للإصلاح كانتا متضاربتين، ولم يكتب لها أثر عمیق فيها عرفتا من بعد من وجوه الإصلاح.
أولى الحركتين، كانت حركة التجديد الفقهي والفكري التي استفتحت بابن عبدالوهاب في نجد، في القرن الثامن عشر (۱۷۰۳ - ۱۷۹۱)، وتقوم على التوحيد المطلق، وترفض فكرة الحلول والاتحاد، وتؤكد مسئولية الإنسان ، ولمنع التوسل بغير الله ، وتدعو لفتح باب الاجتهاد. وظهر محمد بن نوح الغلاتي في المدينة (۱۷۵۲ - ۱۸۰۳)، كما ظهر ولي الدين الدهلوى في الهند (۱۷۰۲ - ۱۷۹۲)، وفي اليمن ظهر محمد بن على الشوکانی (۱۷۵۸ - ۱۸۲۳)، ثم الشهاب الألوسي في العراق (۱۸۰۲ - ۱۸۵4)، وفي المغرب ظهر محمد بن علي السنوسي (۱۷۷۸ - ۱۸۵۹). ثم ظهر في السودان محمد بن أحمد المهدی (۱۸۶۳ - ۱۸۸۵).





ونلحظ أن هذه الدعوات التجديدية الإصلاحية، كانت ظاهرة عامة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، وأنه برغم الخلافات التي تبدو بين هذه الدعوات وبعضها، فهي جميعا تكون حركة تجديدية، وهي جميعا تتفق اتفاقا عاما في دعوتها للتجديد ونبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد ، ونحن إذا نظرنا إلى مناطق قيام هذه الحركات ، وجدناها تظهر في الهند والعراق شرقا، وفي نجد واليمن والحجاز والسودان جنوبا، وفي المغرب بالجزائر وليبيا غربا ، فهي حركة عامة ، ولكنها تتفادى منطقة القلب من الأمة الإسلامية، بحسبان أن منطقة القلب من هذه الأمة كانت تتركز في مجال الهيمنة المركزية للدولة العثمانية في ذلك الوقت، وهي المنطقة الممتدة على المحور من تركيا إلى الشام إلى مصر ( إستانبول - دمشق - القاهرة)، وكان من الطبيعي أن تبقى منطقة المركز عصية على التغيير والتجديد، لاستتباب المؤسسات التقليدية ، وعظم النفوذ المحافظ لهذه المؤسسات، واتصالها جميعا بهيئات الحكم والسلطان ، ووجودها كلها في منطقة الضوء الساطع لدى أجهزة الدولة ، وكانت حركات التجديد الفقهي والفكري خليقة بأن تنمو ويزداد نفوذها حتى في مجال نفوذ

المؤسسات المركزية، وذلك لعظم الاحتياج إلى الإصلاح الفكري و إلى التجديد الفقهي في ذلك الوقت، ولأن ثمة شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يجسن قبوله لدى عامة المفكرين والمثقفين في مصر والشام ، لو لم تواجه بمثل ما ووجهت به من السلطة.
وثانية هاتين الحركتين، كانت حركة الإصلاح المؤسسي التي قامت مع نهايات القرن الثامن عشر ونهايات القرن التاسع عشر، على امتداد محور السلطة المركزية للدولة العثمانية بين إستانبول والقاهرة .
استفتحت هذه الحركة يسعى السلطان سليم الثالث الإعادة بناء الجيش العثمانی على الطراز الجديد، وذلك بغية التمكن من مواجهة الأخطار الفعلية المحدقة بالدولة العثمانية ، سواء من روسيا القيصرية في الشمال، أو من الإنجليز بأسطولهم في البحر المتوسط، أو من سائر الدول الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت، وتلت حركة سليم الثالث الفاشلة حركة السلطان محمود الثاني (۱۸۰۸ - ۱۸۶۰)، وحركة محمد على في مصر (۱۸۰۵-۱۸۹۸)، وقامت هذه الحركات بمناسبة وقائع الغزو الأوروبي لأرض المسلمين بخاصة ، وللشرق بعامة،
لم يبدأ تاريخنا المعاصر إلا وكان قد أحكم الحصار حولنا. اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي أدى إلى تطويق العالم الإسلامي من الجنوب والشرق، فضلا عن الغرب والشمال، ونحن نذكر توسعات روسيا القيصرية في آسيا الوسطي، وسيطرتها على بلدان (ما وراء النهر)، ودخول بخاری وطشقند وسمرقند في حوزتها، ثم حروبها ضد الدولة العثمانية بالزحف عليها من الشمال . کا نعرف سيطرة الإنجليز على الهند، ووصول هولندا إلى جزر الهند الشرقية، ثم صعود الإنجليز من الهند شالا إلى أواسط
آسياء
وبعد عام حركة الحصار الغربي، بدأت عمليات غزو القلب مع نهايات القرن الثامن عشر، وعلى مدى القرن التاسع عشر. ومن أبرز ملامحها : حملة نابليون على مصر في عام ۱۷۹۸ التي كان يستهدف منها الاستيلاء على مصر وأرض الشام كلها، ثم استيلاء الإنجليز على عدن في عام ۱۸۳۹، واستيلاء فرنسا على الجزائر في عام ۱۸۳۰ ثم على تونس في عام ۱۸۹۹، وأستيلاء إيطاليا على ليبيا في عام ۱۹۱۲، واستبلاء فرنسا على المغرب في السنة نفسها، ثم اقتسام الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام۱۹۱۸. وهكذا تقطعت البلاد شلوا شلوا ، مما كان له أثره العميق من بعد

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget