همس الجنون لــ نجيب محفوظ



ما الجنون؟!
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة والموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج ، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق. وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفا بعض الوقت بالخانكة، ويذكر - الآن أيضا۔ ماضي حياته كما يذكره
العقلاء جميعا ، وكما يعرف حاضره. أما تلك الفترة القصيرة قصيرة كانت والحمد لله . فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لا يدري من أمرها شيئا تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثیری عجیب ، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها ، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعنها الظلمة، ويجيء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة وما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمنا وحيرة، ضاعت تلك الفترة السحرية ما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارا كثيفا من الصمت والتجاهل الحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متى وقعت؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئا غير العقل؟ وان صاحبه أمسى فردا شاذا يجب عزله بعيدا عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟!
كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعل ذاك ما

حبب إليه الجمود والكسل، وزهده في الناس والنشاط . ولذلك عدل عن مرحلة التعليم في وقت باكر، وأبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به ، وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة فيشبك راحتيه على ركبته، ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين تقيلين، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع، فعلی کرسبه من الطوار كانت حياته ولذته . ولكن وراء ذلك المظهر البليد الساکن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال، كان تمثالا من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس، وهو بمعزل عن الحياة جميعا.





ثم ماذا؟! | حدث في الماء الآسن حركة غريبة فجائية كأنا ألقي فيه بحجر . كيف ؟! |
رأي يوما. إذ هو مطمئن إلى كرسبه على الطوار- عمالا يملكون الطريق، پرشون رملا أصفر فاقعا يسر الناظرين، بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شیء فيتساءل: لماذا يرشون الرمل؟ ثم قال لنفسه: إنه يثور فيملأ الخياشيم ويؤذى الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمونه، فلماذا يرشونه إذن؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك، فخال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى، ووجد في عملية الرش أولا والكنس أخيرا والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة أي حيرة، بل أحس ميلا إلى الضحك، ونادرا ما كان يفعل، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه، ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ، فالواقع أنه كان نذیر تغییر شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديدة، ومضى يومه حائرا أو

ضاحكا، يحدث نفسه فبقول كالذاهل: پرشون فيؤذون ثم یکنسون... ها ها هاا
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرأة يهيئ من شانه ، فوقعت عيناه على ربطة رقبته وسرعان ما أدركته حيرة جديدة . فتساءل: لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الريطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدری إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة، ومضى يقلب عينيه في أجزاء من ملابسه جميعا بإنكار وغرابة ، ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضا؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم بتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته .
ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهرا طويلا قانعا مطمئنا. كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه علی رغمه؟! أجل على رغمه. وقد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه، وكبر عليه أن يرضى بقيد على رغمه، أليس الإنسان حرا؟ وتفكر ملياثم أجاب بحماس: بلى أنا حر، وملأه بغتة الشعور بالحرية، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر ، نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه، إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء ، غیر مذعن لقوة أو خاضع لعلة لسبب خارجي أو باعث باطنی، حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة، وأنقذها بحماس فائق من وطأة العلل، وداخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب، فألقي نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السبل مسیرین مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حین پرید، مزدریا کل قوة أو قانون أو غريزة، وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget