النهايات لــ عبدالرحمن منيف

النهايات  لــ  عبدالرحمن منيف



إنه القحط.. مرة أخرى!
وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء وحتى البشر يتغيرون. وطباعهم ت غير تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة أول الأمر لكن لحظات الغضب التي كثيرا ما تتكرر. تفجرها بسرعة. تجعلها معادية. جموحا. ويمكن أن تأخذ أشكاة لا حصر لها. أما إذا مرت الغيوم عالية سريعة. فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدي !
وحين يجيء القحط لا يشرك بينا دون أن يدخله. ولا يترك إنسائا إلا ويخلف في قلبه أو في جسده أثرا، وإذا كان المستون قد تعودوا. منذ فترة طويلة. لفرط ما مهم من أيام قاسية على سنوات الخل وعفة الجوع. وكانت المخاوف تملأ قلوبهم حين يفكرون فيها. فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه. لأن الكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبا ياصرار قوي أول الأمر لتكون زاذا في أيام الجوع لا تلبث أن تشرب أو تختفي، كما يتسرب ماء البيع أو كما يجف المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم. وخلال هذا البحث تتراكم الأحزان والمخاوف لتصبح شبحا مرعب تظهر آثاره في وجوه الصغار، وفي سهوم الرجال وشتائمهم، وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة
إله القحط مرة أخرى، وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها، ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذه الأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وير لونها إلى أطراف المدينة، ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر والرعاة الذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف. وكانوا يسوقوها في بداية فصل الربيع






ومعها الحملان الصغيرة. وكانوا يضعوها على صدورهم لأنها ولدت لتوها, لكي يبيعوها في المدينة. ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دراجم العنب والتين والتفاح، ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعودوا استعمالها أوزانا ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبوها إن كل هؤلاء إذا جاءوا في مواسم القحط يجيئون هيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقة وغريبة الألوان. وعيونهم مليئة بالحزن والخوف. أما أصواتم القوية الصاخبة فكانت تترلق إلى الداخل، وبدلا عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة، حتى إنهم كانوا يضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجهها لهم أصحاب الدكاكين في المدينة. والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ما ينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التي يضعوها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لا بيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف. وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح به نقودهم القليلة من الدقيق والسكر حتى الرعاة الذين كانوا شديدي الترق ويبالغون في المقابل الذي يطالبون به ثمنا للخراف. وكانوا يفضلون العودة مرة أخرى ومعهم دوام، دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذه السنة إلى رجال مترددين متوسلين لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنة. إذ أصبحوا يخافون خوفا حقيقيا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش
أما الباعة الذين تعودوا المجيء في كل المواسم حاملين من كل موسم ثماره. وفي بعض الأحيان للتجول والفرجة. فلم يعد أحد يراهم يحملون شيئا في هذه المواسم. وكائهم مجموعة من القنافذ تكورت وهربت أشياءها إلى باطن الأرض! |

لو اقتصر الأمر على هذه المظاهر لما أثار استغرابا, لأن العلاقة بين المدينة وما يحيط ها هي من القوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون. لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعودوا على تقديم القروض الصغيرة للفلاحين واستيفائها أضعافا مضاعفة في المواسم. اتخذوا موققا. بدا. أول الأمر مليئا بالشروط والتعنت. ثم ما لبثوا أن امتنعوا تماما. وافتعلوا لذلك أسبابا و خصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات. فقد رفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة وأصروا على شروط جديدة. أصروا على أن تسجل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون باسمائهم وأسماء أبنائهم، وفي محاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائما: (الدنيا حياة وموت. والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه. فكيف يضمن حياة أولاده الصغار بعد موته؟). كانوا لا يكتفون بذلك. كانوا يضيفون: أو كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليك پینگم کاتب بالعدل)
والفلاحون الذين قالوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى، ورفضوا تسجيل الأراضي أول الأمر اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحلي الذهبية والفضية القديمة، والتي جمعت خ لال فترات طويلة سابقة. وقدموها عوضا من الطحين والسكر وبعض أمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدم الأراضي والبساتين التي طلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع، وكان التجار يزدادون تصلبا ولا يوافقون إلا بشروطهم، وبعد أن تتم جميع الإجراءات

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget